سورة الرحمن
روى الترمذي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي اللّه عنه قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} قالوا: لاشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) "أخرجه الترمذي ورواه الحافظ البزار وابن جرير بنحوه".
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الآية رقم (1 : 13)
{ الرحمن . علم القرآن .خلق الإنسان . علمه البيان . الشمس والقمر بحسبان . والنجم والشجر يسجدان . والسماء رفعها ووضع الميزان . ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان . والأرض وضعها للأنام . فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان . فبأي آلاء ربكما تكذبان }
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه، أنه أنزل على عباده القرآن، ويسر حفظه وفهمه على من رحمه، فقال تعالى: {الرحمن علم القرآن * خلق الإنسان علمه البيان} قال الحسن: يعني النطق، وقال الضحّاك: يعني الخير والشر، وقول الحسن ههنا أحسن وأقوى، لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو آداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها، على اختلاف مخارجها وأنواعها، وقوله تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} أي يجريان متعاقبين بحساب مقنّن، لا يختلف ولا يضطرب. {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}، وقال تعالى: {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم}. وقوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} اختلف المفسرون في معنى قوله {والنجم}؛ فروي عن ابن عباس {النجم} ما انبسط على وجه الأرض، يعني من النبات وهو قول سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري واختاره ابن جرير ، وقال مجاهد: النجم الذي في السماء، وكذا قال الحسن وقتادة، وهذا القول هو الأظهر واللّه أعلم، لقوله تعالى: {ألم تر أن اللّه يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} الآية، وقوله تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان} يعني العدل، كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} وهكذا قال ههنا: {ألا تطغوا في الميزان} أي خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل، ولهذا قال تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط، كما قال تعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم}.
وقوله تعالى: {والأرض وضعها للأنام} أي السماء أرساها بالجبال الشامخات، لتستقر بما على وجهها من الأنام، وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أقطارها وأرجائها، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: الأنام: الخلق، {فيها فاكهة} أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح، {والنخل ذات الأكمام} أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً، والأكمام: قال ابن عباس: هي أوعية الطلع، وهو الذي يطلع فيه القنو، ثم ينشق عن العنقود فيكون بسراً ثم رطباً، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه، وقيل الأكمام رفاتها، وهو الليف الذي على عنق النخلة، وهو قول الحسن وقتادة، {والحب ذو العصف والريحان} قال ابن عباس: {ذو العصف} يعني التبن، وعنه: العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه، فهو يسمى العصف إذا يبس، وكذا قال قتادة والضحّاك: عصفه: تبنه، وقال ابن عباس ومجاهد: والريحان يعني الورق، وقال الحسن: هو ريحانكم هذا، ومعنى هذا - واللّه أعلم - أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما، له في حال نباته عصف وهو ما على السنبلة، وريحان وهو الورق الملتف على ساقها، وقيل: العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلا، والريحان الورق يعني إذا أدجن وانعقد فيه الحب، كما قال زيد بن عمرو ابن نفيل في قصيدته المشهورة:
وقولا له: من ينبت الحب في الثرى * فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه * ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
وقوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان؟ أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها، فنحن نقول كما قالت الجن: (اللهم ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد) وكان ابن عباس يقول: لا بأيها يا رب، أي لا نكذب بشيء منها.
الآية رقم (14 : 25)
{ خلق الإنسان من صلصال كالفخار . وخلق الجان من مارج من نار . فبأي آلاء ربكما تكذبان . رب المشرقين ورب المغربين . فبأي آلاء ربكما تكذبان . مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام . فبأي آلاء ربكما تكذبان }
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقه الجان من مارج من نار، وهو طرف لهبها، قاله ابن عباس وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وابن زيد ، وعنه: {من مارج من نار}
من لهب النار من أحسنها، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {من مارج من نار} من خالص النار، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحّاك وغيرهم، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (خُلِقت الملائكةُ من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) "أخرجه مسلم والإمام أحمد". وقوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟ تقدم تفسيره، {رب المشرقين ورب المغربين} يعني مشرقي الصيف والشتاء، ومغربي الصيف والشتاء، وقال: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس، وقال: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذوه وكيلاً}، والمراد منه جنس المشارق والمغارب، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس قال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟ وقوله تعالى: {مرج البحرين} قال ابن عباس: أي أرسلهما، وقوله {يلتقيان} قال ابن زيد: أي منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما، والمراد بقوله {البحرين}: الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس تقدم الكلام على هذا في سورة الفرقان ؛ وقد اختار ابن جرير: أن المراد بالبحرين بحر السماء، وبحر الأرض، لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء وأصداف بحر الأرض، وهذا لا يساعده اللفظ، فإنه قد قال {بينهما برزخ لا يبغيان} أي وجعل بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخاً وحجراً محجوراً.
وقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} أي من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى، كما قال تعالى {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم}؟ والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الاطلاق. واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ قاله مجاهد وقتادة والضحّاك ، وقيل: كباره وجيده، حكاه ابن جرير عن بعض السلف منهم الربيع بن أنَس وابن عباس ومرة الهمداني
، وقيل: هو نوع من الجواهر أحمر اللون، قال ابن مسعود: المرجان الخرز الأحمر. وأما قوله: {ومن كلٍ تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها}، فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحلية إنما هي من المالح دون العذب، قال ابن عباس: ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر فوقعت في صدفة إلا صار منها لؤلؤة، ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟ وقوله تعالى: {وله الجوار المنشآت} يعني السفن التي تجري {في البحر} قال مجاهد: ما رفع قلعه من السفن فهي منشآت وما لم يرفع قلعه فليس بمنشآت. وقال قتادة: المنشآت يعني المخلوقات، وقال غيره: المنشِئات بكسر الشين يعني البادئات، {كالأعلام} أي كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم، مما فيه صلاح الناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، ولهذا قال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟ عن عمرة بن سويد قال: (كنت مع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه على شاطئ الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها فبسط عليٌّ يديه، ثم قال: يقول اللّه عزَّ وجلَّ: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله) "أخرجه ابن أبي حاتم".
الآية رقم (26 : 30)
{ كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن . فبأي آلاء ربكما تكذبان }
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء اللّه، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس هو الحي الذي لا يموت أبداً، قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فانٍ، وفي الدعاء المأثور: يا حي يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شئننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك. وقال الشعبي: إذا قرأت: {كل من عليها فان} فلا تسكت حتى تقرأ: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}. وهذه الآية كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي هو أهل أن يُجل فلا يُعصى، وأن يُطاع فلا يُخالف، كقوله تعالى: {يريدون وجهه}، وكقوله: {إنما نطعمكم لوجه اللّه}، قال ابن عباس: {ذو الجلال والإكرام} ذو العظمة والكبرياء، ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل، قال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. وقوله تعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش: من شأنه أن يجيب داعياً أو يعطي سائلاً، أو يفك عانياً أو يشفي سقيماً، وقال مجاهد: كل يوم هو يجيب داعياً ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً، وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض يحيي حياً ويميت ميتاً، ويربي صغيراً ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم، وروى ابن جرير عن منيب الأزدي قال: تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية: {كل يوم هو في شأن} فقلنا: يا رسول اللّه وما ذاك الشأن؟ قال: (أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين) "أخرجه ابن جرير مرفوعاً ورواه البخاري موقوفاً من كلام أبي الدرداء". وقال ابن عباس: إن اللّه خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة، يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء "أخرجه ابن جرير".
الآية رقم (31 : 36)
{ سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان }
قال ابن عباس في قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} قال: وعيد من اللّه تعالى للعباد، وليس باللّه شغل وهو فارغ، وقال قتادة: قد دنا من اللّه فراغ لخلقه، وقال ابن جريج: {سنفرغ لكم} أي سنقضي لكم، وقال البخاري: سنحاسبكم لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب، يقال: لأفرغنّ لك، وما به شغل يقول: لآخذنك على غرتك، وقوله تعالى: {أيها الثقلان} الثقلان: الإنس والجن كما جاء في الصحيح: (يسمعه كل شيء إلا الثقلين) وفي رواية: (إلا الإنس والجن) وفي حديث الصور: (الثقلان الإنس والجن) {فبأي آلاء ربكما تكذبان}، ثم قال تعالى: {يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} أي لا تستطيعون هرباً من أمر اللّه وقدره، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب {إلا بسلطان} أي إلا بأمر اللّه، {يقول الإنسان يومئذ أين المفر}، ولهذا قال تعالى: {يُرسلُ عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} قال ابن عباس: الشواظ هو لهب النار، وعنه: الشواظ الدخان، وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع، وقال الضحّاك: {شواظ من نار} سيل من نار، وقوله تعالى: {ونحاس} قال ابن عباس: دخان النار، وقال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاساً. روى الطبراني عن الضحّاك أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال: هو اللهب الذي لا دخان معه، فسأله شاهداً على ذلك من اللغة، فأنشده بيت أمية بن أبي الصلت في حسان:
ألا من مبلغ حسانَ عني * مُغَلْغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قيناً * لدى القينات فَسْلا في الحِفاظ
يمانياً يظل يشد كيراً * وينفخ دائباً لهب الشواظ
معنى مغلغلة: أي رسالة، قين: أي عبد، فَسْل: أي ضعيف عابر .
قال: صدقت، فما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب له، قال: فهل تعرفه العرب؟ قال: نعم أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول:
يضيء كضوء سراج السلي * ط لم يجعل اللّه فيه نحاساً "رواه الطبراني عن الضحّاك عن نافع بن الأزرق".
وقال مجاهد: النحاس الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم، والمعنى: لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بارسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا، ولهذا قال: {فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟
الآية رقم (37 : 45)
{ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام . فبأي آلاء ربكما تكذبان . هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون . يطوفون بينها وبين حميم آن . فبأي آلاء ربكما تكذبان }
يقول تعالى: {فإذا انشقت السماء} يوم القيامة كما دلت عليه الآيات الواردة في معناها، كقوله تعالى: {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية}، وقوله: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً}، وقوله: {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت}، وقوله تعالى: {فكانت وردة كالدهان} أي تذوب كما يذوب الدُّردِي الدردي: ما يركد في أسفل كل مائع كالشراب والأدهان والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. عن أنَس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم) "رواه الإمام أحمد من حديث أنَس بن مالك قال الجوهري: الطش المطر الضعيف، وقال ابن عباس: {وردة كالدهان} كالأديم الأحمر، وعنه كالفرس الورد، وقال أبو صالح: كالبرذون الورد، ثم كانت بعد كالدهان، وقال الحسن البصري: تكون ألواناً، وقال السدي: تكون كلون البغلة الوردة، وتكون كالمهل كدردي الزيت، وقال مجاهد: {كالدهان} كألوان الدهان، وقال عطاء الخُراساني: كلون دهن الورد في الصفرة، وقال قتادة: هي اليوم خضراء ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان، وقال أبو الجوزاء، في صفاء الدهن، وقال ابن جريج: تصير السماء كالدهان الذائب، وذلك حين يصيبها حر جهنم، وقوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان}، وهذه كقوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} فهذا في حال، و(ثَمَّ) في حال، يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، قال اللّه تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}، ولهذا قال قتادة {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان}، قال: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، قال ابن عباس: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا، فهذا قول ثان، وقال مجاهد في هذه الآية: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم، وهذا قول ثالث، وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها كما قال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} أي بعلامات تظهر عليهم، وقال الحسن وقتادة: يعرفون باسوداد الوجوه وزرقة العيون، قلت : وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.
وقوله تعالى: {فيؤخذ بالنواصي والأقدام} أي يجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك، وقال ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور، وقال الضحّاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره، وقال السدي: يجمع بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره، وقوله تعالى: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون} أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرة تشاهدونها عياناً، يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً، وقوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن} أي تارة يعذبون في الحجيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون}. وقوله تعالى: {آن} أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة قال ابن عباس: قد انتهى غليه واشتد حرّه، وقال محمد بن كعب القرظي: يؤخذ العبد فيحرك بناصيته في ذلك الحميم، حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس، وهي كالتي يقول اللّه تعالى: {في الحميم ثم في النار يسجرون} فقوله {حميم آن} أي حميم حار جداً، ولما كان معاقبة العصاة المجرمين، وتنعيم المتقين من فضله ورحمته، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه، مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي، قال ممتناً بذلك على بريته: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟
الآية رقم (46 : 53)
{ ولمن خاف مقام ربه جنتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . ذواتا أفنان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما عينان تجريان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما من كل فاكهة زوجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان }
قال عطاء الخُرساني: نزلت هذه الآية {ولمن خاف مقام ربه جنتان} في أبي بكر الصديق، وقال عطية بن قيس: نزلت في الذي قال: أحرقوني بالنار لعلي أضل اللّه، قال تاب يوماً وليلة، بعد أن تكلم بهذا فقبل اللّه منه وأدخله الجنة "رواه ابن أبي حاتم"، والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره، يقول اللّه تعالى: {ولمن خاف مقام ربه} بين يدي اللّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة {ونهى النفس عن الهوى} ولم يطع ولا آثر الحياة الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض اللّه واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما روى البخاري رحمه اللّه: عن عبد اللّه بن قيس، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (جنتان من فضة أنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عزَّ وجلَّ إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) "أخرجه البخاري وبقية أفراد الجماعة إلا أبا داود"، وقال حماد: ولا أعلمه إلا قد رفعه في قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}، وفي قوله: {ومن دونهما جنتان}، جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين. وقال عطاء بن يسار، أخبرني أبو الدرداء أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ يوماً هذه الآية {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول اللّه؟ فقال: (وإن ... رغم أنف أبي الدرداء) "رواه النسائي مرفوعاً وموقوفاً"، وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، ولهذا
امتن اللّه تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان} ثم نعت هاتين الجنتين فقال: {ذواتا أفنان} أي أغصان نضرة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة، {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟ هكذا قال عطاء وجماعة: أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضاً، وقال عكرمة {ذواتا أفنان} يقول: ظل الأغصان على الحيطان، ألم تسمع قول الشاعر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة * تدعو على فنن الغصون حماما
وعن ابن عباس {ذواتا أفنان}: ذواتا ألوان، ومعنى هذا القول أن فيهما من الملاذ واختاره ابن جرير، وقال عطاء: كل غصن يجمع فنوناً من الفاكهة، وقال الربيع بن أنس: {ذواتا أفنان} واسعتا الفناء، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها واللّه أعلم، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى فقال: (يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو قال يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال) "أخرجه الترمذي في سننه"{فيهما عينان تجريان} أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان. قال الحسن البصري: إحداهما يقال لها تسنيم، والأخرى السلسبيل، وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، ولهذا قال بعد هذا: {فيهما من كل فاكهة زوجان} أي من جميع أنواع الثمار، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {فبأي آلاء ربكما تكذبان} قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة، وليس في الدنيا مما في الأخرة إلا الأسماء، يعني أن بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيناً في التفاضل.
الآية رقم (54 : 61)
{ متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . كأنهن الياقوت والمرجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . هل جزاء الإحسان إلا الإحسان . فبأي آلاء ربكما تكذبان }
يقول تعالى: {متكئين}، يعني أهل الجنة، والمراد بالاتكاء ههنا الاضجاع، ويقال: الجلوس على صفة التربيع {على فرش بطائنها من استبرق} وهو ما غلظ من الديباج، وقيل: هو الديباج المزيّن بالذهب، فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة، فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، قال ابن مسعود: هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟ قال مالك بن دنيار: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور، وقال الثوري: بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد، وقال القاسم ابن محمد: بطائنها من إستبرق وظواهرها من الرحمة {وجنى الجنتين دان} أي ثمرهما قريب إليهم متى شاءوا تناولوه، على أي صفة كانوا كما قال تعالى: {قطوفها دانية}، وقال: {ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً} أي لا تمتنع ممن تناولها بل تنحط إليه من أغصانها {فبأي آلاء ربكما تكذبان} ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك {فيهن} أي في الفرش {قاصرات الطرف} أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئاً في الجنة أحسن من أزواجهن، وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها: واللّه ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك، ولا في الجنة شيئاً أحب إليّ منك، فالحمد للّه الذي جعلك لي وجعلني لك، {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} أي بل هن أبكار عرب أتراب، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن، وهذه أيضاً من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة، سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة؟ قال: نعم، وينكحون، للجن جنيات وللإنس إنسيات، وذلك قوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان * فبأي آلاء ربكما تكذبان}، ثم قال ينعتهن للخطاب {كأنهن الياقوت والمرجان} قال مجاهد والحسن: في صفاء الياقوت وبياض المرجان، فجعلوا المرجان ههنا اللؤلؤ، عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير حتى يرى مخها) وذلك قوله تعالى: {كأنهن الياقوت والمرجان} فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه) "رواه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أصح". وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب) "تفرد به الإمام أحمد"وعن محمد بن سيرين قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا، الرجال أكثر في الجنة أم النساء، فقال أبو هريرة: أولم يقل أبو القاسم صلى اللّه عليه وسلم: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم وما في الجنة أعزب؟) "الحديث مخرج في الصحيحين". وروى الإمام أحمد، عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: )لغدوة في سبيل اللّه أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدهم أو موضع قده - يعني سوطه - من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولطاب ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) "أخرجه أحمد ورواه البخاري بنحوه".
وقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} أي ليس لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}. روى البغوي، عن أنَس بن مالك قال، قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} وقال: (هل تدرون ما قال ربكم؟) قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: (يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة)؟ "ذكره البغوي من حديث أنَس بن مالك"ولما كان في الذي ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان قال بعد ذلك كله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟
الآية رقم (62 : 78)
{ ومن دونهما جنتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . مدهامتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما عينان نضاختان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما فاكهة ونخل ورمان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهن خيرات حسان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . حور مقصورات في الخيام . فبأي آلاء ربكما تكذبان . لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام }
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما، في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن قال اللّه تعالى:
{ومن دونهما جنتان} وقد تقدم في الحديث: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين. وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين، وقال ابن عباس: {ومن دونهما جنتان} من دونهما في الدرجة، وقال ابن زيد: من دونهما في الفضل؛ {مدهامتان} أي سوداوان من شدة الري من الماء، قال ابن عباس {مدهامتان} قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء، وعنه {مدهامتان} قال: خضروان. وقال محمد بن كعب: ممتلئتان من الخضرة، وقال قتادة: خضروان من الري ناعمتان، ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض، وقال هناك: {فيهما عينان تجريان} وقال ههنا: {نضاختان} قال ابن عباس: أي فياضتان والجري أقوى من النضخ، وقال الضحّاك {نضاختان} أي ممتلئتان ولا تنقطعان، وقال هناك: {فيهما من كل فاكهة زوجان} وقال ههنا {فيهما فاكهة ونخل ورمان}، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على {فاكهة} وهي نكرة في سياق الاثبات لا تعم، ولهذا ليس في قوله: {ونخل ورمان}، من باب عطف الخاص على العام، كما قرره البخاري وغيره، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما، عن عمر بن الخطاب قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا محمد أفي الجنة فاكهة؟ قال: (نعم فيها فاكهة ونخل ورمان) قالوا: أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال: (نعم، وأضعاف) قالوا: فيقضون الحوائج؟ قال: (لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب ما في بطونهم من أذى) "أخرجه عبد الحميد في مسنده". وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: (نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم ومنها حللهم، وورقها ذهب أحمر، وجذوعها زمرد أخضر، وتمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم) وعن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب) "أخرجهما ابن أبي حاتم"، ثم قال: {فيهن خيرات حسان} قيل: المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة، وقيل: {خيرات} جمع خيرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه قاله الجمهور، وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة الواقعة إن شاء اللّه أن الحور العين يغنين: (نحن الخيِّرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام( ولهذا قرأ بعضهم: {فيهن خيّرات} بالتشديد {حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان}، ثم قال {حور مقصورات في الخيام}، وهناك قال: {فيهن قاصرات الطرف} ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصِرت وإن كان الجميع مخدرات، قال ابن أبي حاتم، عن عبد اللّه بن مسعود قال: إن لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، تدخل عليه كل يوم تحفة وكرامة وهدية، لم تكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات، ولا بخرات، ولا زفرات، حور عين كأنها بيض مكنون.
وقوله تعالى: {في الخيام} قال البخاري، عن عبد اللّه بن قيس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما
يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون)
ورواه مسلم بلفظ: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً) وقال ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء قال: لؤلؤة واحدة فيها سبعون باباً من در "أخرجه ابن أبي حاتم". وعن ابن عباس في قوله تعالى: {حور مقصورات في الخيام} قال: خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة أربع فراسخ في أربع فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقال عبد اللّه بن وهب، عن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء) "أخرجه الترمذي في سننه". وقوله تعالى: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} قد تقدم مثله سواء إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله: {كأنهن الياقوت والمرجان * فبأي آلاء ربكما تكذبان}، وقوله تعالى: {متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان} قال ابن عباس: الرفرف المحابس، وكذا قال مجاهد وعكرمة هي المحابس، وقال عاصم الجحدري: {متكئين على رفرف خضر} يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري، وقال سعيد بن جبير: الرفرف رياض الجنة، وقوله تعالى: {وعبقري حسان} قال ابن عباس والسدي: العبقري الزرابي، وقال سعيد بن جبير: هي عتاق الزرابي يعني جيادها، وقال مجاهد: العبقري الديباج.
وسأل الحسن البصري عن قوله تعالى {وعبقري حسان} فقال: هي بسط أهل الجنة لا أباً لكم فاطلبوها، وقال أبو العالية: العبقري الطنافس المحملة إلى الرقة ما هي، وقال القيسي: كل ثوب موشّى عند العرب عبقري، وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة، فإنه قد قال هناك: {متكئين على فرش بطائنها من إستبرق}، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}؟ فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيرتين، ونسأل اللّه الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين. ثم قال: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} أي هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وقال ابن عباس {ذي الجلال والإكرام}: ذي العظمة والكبرياء. (أجلّوا اللّه يغفر لكم) "أخرجه الإمام أحمد". وفي الحديث الآخر: (أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام) "رواه الترمذي". وفي رواية: (أَلِظُّوا بذي الجلال والإكرام) "رواه النسائي وأحمد". وقال الجوهري: ألظ فلان بفلان إذا لزمه، وقول ابن مسعود: ألظوا بياذا الجلال والإكرام: أي الزموا، يقال: الإلظاظ هو الإلحاح، وفي صحيح مسلم، عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) "أخرجه مسلم وأصحاب السنن".